أنطولوجيا المستقبل والوعي المتحوّل في العصر الرقمي
لم يعد الزمن في عصرنا مجرّد رحلة تبدأ من الماضي وتمرّ بالحاضر لتصل إلى المستقبل. لقد تغيّر مفهوم الزمن نفسه، وصار فضاءً مفتوحًا تتحكم به التقنية كما يتحكم الخيال في الحلم.
اليوم، لم يعد الإنسان يعيش الزمن كما هو، بل أصبح يصنعه بنفسه. كأننا رسامون نعيد رسم الواقع بألوان الذاكرة والخيال والتجربة، فلا الماضي خلفنا تمامًا، ولا المستقبل أمامنا تمامًا، بل كلاهما يعيشان داخل وعينا، نعيد ترتيبهما لحظة بلحظة، ذلك أن التحوّل الرقمي الذي نعيشه غيّر كل شيء:
ذاكرتنا أصبحت ممتدة في الأجهزة والسُحُب الإلكترونية، ومشاعرنا تنتقل في لحظة إلى ملايين الشاشات، وهويتنا باتت قابلة للتحديث كما نحدّث تطبيقًا على هواتفنا.
في هذا العالم الجديد، وُلد زمن ثالث ـ ليس الزمن الذي تقيسه الساعات، ولا الزمن النفسي الذي نحسه في داخلنا ـ بل زمن ينشأ من تفاعل الإنسان مع الفضاء الرقمي، من تداخل خياله الشخصي مع الخيال الجماعي الذي تصنعه الشبكات.
لو عاد نيتشه اليوم، ربما لن يسأل عن القيم كما فعل في القرن التاسع عشر، بل قد يسأل: من يملك الزمن؟ ومن يكتب لحظاته؟ لأن القيم اليوم تُسوّق مثل السلع، والزمن نفسه أصبح منتجًا رقميًا نصممه ونستهلكه. فمن لا يملك زمنه، لا يملك ذاته. فالعبودية الحديثة ليست في الطاعة، بل في العيش داخل زمنٍ صاغه الآخرون لنا.
أما هايدغر، الذي رأى في الموت أفق الوجود، فلو نظر إلى زمننا الرقمي لقال: لم يعد الوجود يتجه نحو نهاية واحدة، بل إلى احتمالات لا تُحصى. فالمستقبل اليوم يُخلق في الفضاء الرقمي قبل أن يحدث في الواقع، والإنسان يعيش نسخًا متعددة من نفسه، كل نسخة تختبر زمنها الخاص ثم تختفي لتولد في شكل جديد.
لم تعد الذاكرة مستودعًا ساكنًا، بل مساحة يمكن تعديلها وإعادة كتابتها. صار بإمكاننا أن نغيّر قصصنا، أن نحذف ما يؤلمنا ونصنع ما نريده أن يكون.
بهذا المعنى، لم يعد الخيال وسيلة للهروب من الواقع، بل أصبح وسيلة لصنعه. الإنسان الرقمي لا يعيش زمنًا واحدًا، بل أزمنة متداخلة تتفاعل معًا في لحظة واحدة. كل تجربة رقمية، كل محادثة، كل منشور، تضيف طبقة جديدة إلى وعيه وزمنه الداخلي. لم نعد محكومين بإيقاع الطبيعة، بل بإيقاع الشبكة، حيث الثانية الواحدة يمكن أن تحتوي آلاف التجارب والانفعالات.
لكن هذا الزمن الجديد لا يخص الفرد وحده. فكما صاغت الأساطير والدين وعيًا جمعيًا في الماضي، يصوغ الفضاء الرقمي اليوم وعيًا جماعيًا جديدًا له زمنه الخاص. المزاج العام على الإنترنت لم يعد نتيجة لما يحدث في العالم، بل صار هو الذي يخلق الأحداث.
يكفي أن تتوحد الانفعالات الرقمية ـ الغضب، الفرح، الخوف ـ في اتجاه واحد، حتى تتغير السياسات والقرارات في الواقع. صار الزمن الاجتماعي زمنًا خوارزميًا، تديره المعادلات وتغذيه المشاعر الجماعية.
المجتمع لم يعد مجموعة من الناس، بل شبكة من الأزمنة المتخيلة التي تتفاعل باستمرار. الماضي لم يعد حدثًا منتهيًا، بل يعود كل يوم في صورٍ ومقاطع وأغانٍ تنتشر بسرعة الضوء. كل إعادة نشر تعيد الماضي إلى الحاضر، وتجعله جزءًا من الوعي الآني.
الفرق الجوهري بين الزمن القديم والزمن الرقمي هو أن الأول يُفرض علينا، بينما الثاني نصنعه نحن. في الماضي كنا نعيش الزمن كما هو، أما اليوم فنبرمجه ونصممه ونحذف ما لا يعجبنا منه كما نحذف ملفًا من الهاتف. أصبح الزمن مرنًا، والهوية متعددة ومتغيرة، والحاضر شاشة نبدّل محتواها كما نبدّل الفكرة.
في هذا السياق، يتقدّم الإنسان على زمنه. لم يعد ينتظر المستقبل ليعرفه، بل يصممه مسبقًا عبر الذكاء الاصطناعي والتحليل التنبؤي. أصبح يعيش كمصمم لمصيره، لا كمتلقٍّ له، ويعيد بناء ماضيه ليجعل حاضره أكثر قابلية للعيش. كل تفاعل رقمي أصبح تجربة وجودية في فهم الذات والزمن.
أنطولوجيا المستقبل هنا لا تبحث عن بداية أو نهاية، بل عن توليدٍ مستمر للمعنى. اللحظة الواحدة يمكن أن تحتوي كل الأزمنة، والمستقبل يمكن أن يُستشرف قبل أن يُعاش.
إنها فلسفة “المستقبل المفتوح”، التي ترى أن الخيال ليس نقيض الواقع، بل جوهره العميق. من يتقن صناعة خياله، يصنع زمنه وذاته ومجتمعه. وفي النهاية، يتبدّل السؤال الفلسفي القديم من “من نحن؟” إلى “متى نحن؟”. فالهوية لم تعد مكانًا ثابتًا، بل زمنًا متغيرًا، يتكوّن من نبض الوعي بين التجربة والخيال.
كل إنسان اليوم هو كونٌ صغير يصنع زمنه الخاص، وكل وعي نافذة مفتوحة على احتمالات لا نهاية لها.
من يدرك ذلك، لا يعيش الزمن كما هو، بل يصنعه كما يريد.




