زمن يضيق… ومنطقة تُدفع إلى الحافة
ثمّة شيء غير مريح في الطريقة التي يُروى بها ما يجري حولنا: كأنّ كلّ شيء “تفصيل لبناني صغير” داخل لوحة كبرى تُرسَم في واشنطن وتل أبيب. لكن إذا أبقينا مسافة بسيطة مع الخطاب السائد، نكتشف أنّ ما يحدث في لبنان اليوم ليس ملفاً تقنياً عن سلاح أو عن نقطة حدودية، بل جزء من سباق تاريخي أوسع:
“غرب يتغيّر من الداخل، إسرائيل تُسرِّع خطواتها خوفاً من الزمن، ومحور مقاومة مثخن بالجراح يحاول ألّا يسقط من الخريطة.”
في قلب هذا الاشتباك الزمني، يقف لبنان: هشّ، منهك، لكنه ما يزال عقدة يصعب تجاوزها.
أولاً: الغرب لم يعد كما كان… وإسرائيل تشعر أنّ الوقت يعمل ضدّها
إذا خرجنا من الخطاب التبسيطي الذي يحوّل “الغرب” إلى كتلة صلبة، سنرى شيئاً مختلفاً تماماً. داخل الولايات المتحدة نفسها، تتآكل البنية الكلاسيكية لليهود الأميركيين التي قامت عليها، لعقود، شرعية اللوبي الإسرائيلي واستقراره: زيجات مختلطة بنسبة مرتفعة، معابد فارغة أو شبه فارغة، وجيل شاب لا يرى في إسرائيل محور الهوية ولا بوابة الخلاص.
بالتوازي، تظهر أصوات يهودية وغير يهودية في الكونغرس والإعلام، تنتقد إسرائيل بوضوح، من أقصى اليمين الشعبوي إلى التيارات التقدمية. أسماء مثل زهران ممداني ليست حادثة معزولة، بل مؤشر على تبدّل بطيء في المزاج، وعلى بداية تصدّعات داخل “القصة المؤسسة” للعلاقة بين واشنطن وتل أبيب.
هذه التغيّرات لا تعني أنّ إسرائيل سقطت من العقل الأميركي، لكنها تكسر فكرة “الشيك على بياض” التي تعوّدت عليها. هنا بالضبط يمكن فهم توتر السلوك الإسرائيلي الحالي:
دولة تشعر أنّ زمن الحماية غير المشروطة يضيق، فتقرّر أن تعوّض عن هشاشة المستقبل بكمّ هائل من العنف في الحاضر.
إسرائيل، في هذه القراءة، لا تعيش نشوة قوّة فقط، بل أيضاً هلعاً استراتيجياً:
تريد أن تكرّس نفسها كقوة مهيمنة في المنطقة، قبل أن يكتمل التحوّل في الغرب، وقبل أن يصبح الرأي العام والقوى السياسية هناك أقلّ استعداداً لتمويل المغامرات المفتوحة.
ثانياً: تحالف عضوي… لكن بمصالح متصدّعة
من السهل أن نقول: “”المشروع أميركي–إسرائيلي واحد”. وهذا صحيح على مستوى الاستراتيجية العامة. لكن التفاصيل لا تُدار بمنطق “واحد يملي والآخر ينفّذ”.
الولايات المتحدة في عهد ترامب محكومة بعدّة حسابات متداخلة: انتخابات متلاحقة، وعد “MAGA” الذي يعني عملياً تجنّب حروب برّية كبيرة، وصراع طويل مع الصين أهم بكثير من أيّ جولة إضافية في الشرق الأوسط، حساسية عالية تجاه أيّ ارتفاع في أسعار النفط وتضخّم قبل الاستحقاقات الانتخابية.
من هنا يصبح الضغط على ترامب نفسه أداة إسرائيلية:
ملفّ إبستين، تسريبات الصحف المملوكة لمليارديرات داعمين لإسرائيل، التلويح بالفضائح… كلّها وسائل لدفع الإدارة الأميركية إلى مواقف أكثر حدّة تجاه إيران ومحور المقاومة، حتى لو تعارض ذلك مع الحسابات الباردة للمؤسسة الأميركية.
ومع ذلك، تبقى واشنطن أقل حماسةً لحرب شاملة على إيران. الرهان هناك يتحرك في اتجاه آخر: خنق اقتصادي وتكنولوجي، عزل إقليمي، ومحاولة استثمار هشاشة داخلية في إيران بدلاً من إرسال المارينز إلى الخليج.
بمعنى آخر: التحالف استراتيجي، لكن الزمن السياسي مختلف لدى الطرفين. إسرائيل تريد حسم ملفات سريعة قبل أن تتغيّر قواعد اللعبة؛ أميركا تريد أن تدير الزمن على مهل، من دون كلفة مباشرة على الداخل.
ثالثاً: محور المقاومة بين الذاكرة والأسئلة الصعبة
الخطاب الذي يقول إن “محور المقاومة في أضعف حالاته” لا يصدر فقط عن خصومه. حتى داخل البيئة المتعاطفة معه، هناك إحساس عميق بأن “الظهر لم يعد كما كان”.
سوريا التي كانت ظهيراً سياسياً وعسكرياً، تحوّلت إلى حقل ألغام: سلطة تبحث عن شرعية من الخارج، مجتمع منكسر، اقتصاد منهار، ومسار مصالحة داخلية مؤجّل لصالح ترتيبات أمنية.
العراق بدوره يغرق في توازنات متناقضة، ولبنان يعيش انهياراً اقتصادياً واجتماعياً غير مسبوق، يضرب بيئات المقاومة كما يضرب خصومها، ويحوّل “المعنى السياسي” إلى رفاهية لا يملكها من يقف في طابور البنزين أو الدواء.
من هنا تبدو قراءة العدو بسيطة وخطيرة في آن. لدينا لحظة نادرة اجتمعت فيها: غزة المدمَّرة والمستنزَفة، سوريا الهشة، لبنان المنهار اقتصادياً، إيران المحاصَرة غرباً.
هذه اللحظة، في العقل الإسرائيلي، فرصة تاريخية لا يجوز أن تضيع.
لهذا نرى تصعيداً في الاغتيالات، وتكثيفاً في الضربات، ورفعاً لسقف التهديدات. ليس الأمر “جنوناً مجانياً”، بل محاولة للوصول إلى سقف ما قبل أن يستعيد المحور إعادة تنظيم نفسه، وقبل أن تستيقظ مجتمعات المنطقة من التخدير الثقافي والسياسي الذي تعيشه.
رابعاً: لبنان… الورقة التي يريد الجميع أن يكتب عليها نصّه
لبنان هنا ليس “ملفاً حدودياً ولا جبهة ثانوية”. هو نقطة تلتقي عندها ثلاثة خطوط: أمن إسرائيل وحدودها الشمالية، مصير سلاح حزب الله ومعادلة الردع، وصورة النظام اللبناني نفسه: دولة؟ جبهة؟ مساحة تفاوض؟ أم مزيج مربك من كلّ ذلك؟
في هذا السياق يمكن قراءة: تهديدات إسرائيل بمهل زمنية لنزع السلاح، الحراك المصري–الأميركي، والحديث عن “ورقة حل” ستُقدَّم لاحقاً على طريقة “إما أن تقبلوا، أو تنفتح أبواب الجحيم.”
الورقة المتوقَّعة لن تكون هدية. الأغلب أن تأتي بصيغة مزدوجة:
• بعض الجوائز: انسحاب من نقاط، ترسيم، وعود اقتصادية، توسيع دور الجيش في الجنوب…
• وبعض الشروط الخشنة: ضبط مسار السلاح، إعادة تعريف دور المقاومة، إدخال لبنان في معادلة أمنية جديدة تشبه ما يُرسم لغزة، ولكن بلباس أكثر أناقة.
السؤال ليس تقنياً: هل نقبل أو لا نقبل؟ السؤال الحقيقي: أيّ ثمن اجتماعي واقتصادي وسيادي سندفعه مقابل أيّ اتفاق، وأيّ زمن جديد سيُبنى فوق ركام هذا الزمن؟
خامساً: سوريا… حين تُبنى الشرعية من فوق، وتُنسى من تحت.
سوريا، في هذا المشهد، ليست خلفية بعيدة. هي جزء من المعادلة نفسها، ولكن بوجه آخر. نظام يراهن على اعتراف خارجي وإعادة تطبيع عربي ودولي لكنه يؤجّل، مرّة بعد مرّة، الأسئلة الكبرى حول: العدالة، العقد الاجتماعي، المصالحة الحقيقية، وإعادة توزيع السلطة والثروة.
النتيجة واضحة في الشارع: تظاهرات تعود، غضب يتراكم، خطاب طائفي يُستدعى من الذاكرة كأداة تعبئة، ووضع اقتصادي يضغط على الناس إلى حدّ اليأس.
هذا كله يخلق وصفة جاهزة لانفجار جديد، لن يبقى داخل الحدود السورية، بل سيتمدّد حكماً إلى الجوار: لبنان أولاً، ثم غيره.
في المقابل، لا تزال هناك نافذة ضيقة لإعادة ترتيب البيت الداخلي، لكن المؤشرات الحالية لا تشي بأن النخب الحاكمة في دمشق وواشنطن مستعدّة لطرح السؤال الصعب: من أجل ماذا نريد أن تبقى سوريا، ولأيّ مجتمع تُحكم؟
سادساً: إلى أين؟ ثلاثة مسارات على الأقل… ولا ضمانة لأيٍّ منها
إذا وضعنا العواطف جانباً، يمكن تلخيص مآلات اللحظة الراهنة في ثلاثة مسارات مفتوحة:
1. تصعيد كبير ثم تسوية فوقية
حرب أو سلسلة ضربات واسعة على لبنان وجبهات أخرى، يليها طرح “حلّ مفخخ” على الطريقة الأميركية: ترتيبات حدودية، نزع أو تقييد للسلاح، او إدخال لبنان في هندسة أمنية واقتصادية جديدة. على أن تبقى الجروح الاجتماعية والاقتصادية بلا علاج، مؤجلة لموجة غضب لاحقة.
1. ضغط مستمر من دون حرب شاملة
استمرار حرب الظلال: اغتيالات، عقوبات، حصارات مالية، إبقاء لبنان وسوريا وغزة في حالة احتضار طويل، بلا طلقة رحمة ولا عملية جراحية حقيقية.
هذا المسار يعني: مزيداً من التفكك الاجتماعي، مزيداً من الهجرة، مزيداً من الاغتراب،
وعودة متقطعة لانتفاضات لا تجد من يترجمها إلى مشروع.
2. تحوّل بطيء في الغرب يضيّق الهامش على إسرائيل
تآكل تدريجي في صورة إسرائيل داخل المجتمع الغربي، تمرد داخل جزء من النخب السياسية والإعلامية، صعود قوى دولية منافسة (الصين، روسيا) تستثمر في خصوم إسرائيل.
هذا المسار لا يمنحنا “تحريراً تلقائياً”، لكنه يفتح ثغرة يمكن أن تتحوّل إلى فرصة، إذا وُجد في المنطقة من يملك مشروعاً مختلفاً عن إعادة إنتاج التبعية بأسماء جديدة.
أخيراً: ما بعد السؤال عن الحرب
السؤال الشائع اليوم: هل ستقع حرب على لبنان أم لا؟
المشكلة أن هذا السؤال، بصيغته الحالية، يختزل الأزمة في مشهد واحد: طائرات وصواريخ وبيانات.
بينما ما نعيشه أعمق من ذلك بكثير: إنّه أزمة نموذج يحاول أن يمدّد عمره باستخدام كلّ ما تبقّى له من أدوات، من السلاح الصاروخي إلى السلاح المالي، مروراً بسلاح الخطاب.
لبنان، في هذا السياق، ليس فقط ضحية، ولا فقط منصة مقاومة، ولا فقط “دولة فاشلة”. إنه مرآة صغيرة لخلل كبير: نظام عالمي يتصدّع، منطقة تُدار كنطاق اختبار، وشعوب مُطالَبة بأن تدفع ثمن إعادة تركيب الخريطة، من دمها أولاً، ومن لقمة عيشها ثانياً، ومن ذاكرتها وثقتها بنفسها أخيراً.
هنا ربما يبدأ السؤال الحقيقي: ليس “هل ستقع الحرب؟”، بل: أيّ ذاتٍ عربية أو لبنانية ستخرج من هذه الدورة المقبلة؟ ذات مستسلمة لسلام مُعلَّب، أم ذات تبحث عن توازن جديد بين قدرتها على العيش وحقّها في ألا تُدار دائماً من خارج حدودها؟





