نتنياهو وأميركا أسقطا سوريا عبر الجماعات التكفيرية… فهل يُسقِطان لبنان عبر سلطة مُدارة من السفارة الأميركية؟
قراءة جيوسياسية في هندسة الخراب بين دمشق وبيروت
مقدمة: من دمشق التي سقطت بالسلاح إلى بيروت التي تُستنزف بالمؤسسات.
حين تهاوت دمشق في ديسمبر 2024 خلال أقل من 48 ساعة، كان ذلك تتويجًا لمسار بدأ قبل أكثر من عقد، حين شكّلت الولايات المتحدة وإسرائيل ومعهما أطراف إقليمية منظومة معقدة من الفصائل المسلحة، وغرف العمليات، والتحالفات غير المعلنة، ليُحَوَّل الجنوب السوري إلى مختبر هندسي لإسقاط الدولة (¹. وقد ساعدت البيئة الاجتماعية المتعبة، والاقتصاد المنهار، والفساد البنيوي، على جعل العاصمة السورية قابلة للاختراق إلى الحد الذي أصبحت فيه عملية إسقاط الحكم مجرّد ضربة نهائية لهيكل كان ينخره الخراب من الداخل.
وحين خرج بنيامين نتنياهو في ديسمبر 2024 ثم في أبريل 2025 ليقول بوضوح:
«إسرائيل هي التي أسقطت بشار الأسد»،
كان يكرّس رواية لم تعد بحاجة إلى التمويه: ما جرى في سوريا لم يكن ثورة، بل مشروعًا دوليًا لإعادة تشكيل المشرق بما يناسب الأمن القومي الإسرائيلي (².
واليوم، يتكرّر السؤال:
هل يريد الأميركيون والإسرائيليون إعادة التجربة نفسها في لبنان، ولكن بلا سلاح ولا فصائل؛ بل عبر رئاسة تُدار من السفارة الأميركية، وحكومة تُسوّق بوصفها “إنقاذية” بينما تُستخدم كأداة لتغيير التوازنات الوطنية؟
إن قراءة المشهدين السوري واللبناني معًا تكشف خطوطًا موازية واضحة: إدارة أميركية دقيقة للفاعلين المحليين، دور إسرائيلي مباشر ولكن غير معلن، تفكك اقتصادي يُستثمر سياسياً، وتدريبات على إنتاج ما يُسمّى “بدائل الحكم”.
إلا أن الفارق الجوهري يكمن في طبيعة المجتمع ودور المقاومة.
القسم الأول: سوريا نموذج مكتمل – كيف أسقطت الفصائل الدولة؟
1. الفصائل الجنوبية: سلطة موازية وُلدت من الفراغ
لم تكن الفصائل الجنوبية التي ظهرت منذ 2011 انعكاسًا لثورة شعبية بقدر ما كانت بنية هجينة تنتمي إلى ثلاثة جذور رئيسية:
الأول اجتماعي قائم على القبائل المتضررة من سياسات التهميش في الثمانينيات؛
الثاني اقتصادي مرتبط بشبكات التهريب التي تطورت مع انهيار الحدود؛
والثالث أيديولوجي تأثر بالسلفية الجهادية الوافدة من العراق (³.
هكذا، نشأت تشكيلات مسلحة مثل “جيش السنة” و“جيش اليرموك” كمزيج من الضباط المنشقين وتجار الحدود والخطاب الديني الغاضب. لم تكن هذه الفصائل “معارضة سياسية”، بل حكمًا ميدانيًا موازياً تَشكّل بتمويل خارجي.
2. غرفة الموك: هندسة دولية لجبهة كاملة
حين تأسست غرفة “الموك” في الأردن عام 2013 بقيادة وكالة الاستخبارات الأميركية، كان الهدف المركزي هو تحويل الجنوب السوري إلى منطقة عمليات تُدار من الخارج.
وضعت الغرفة ثلاثة أهداف واضحة:
إنتاج “معارضة معتدلة” قادرة على إسقاط النظام بطريقة منظّمة؛
تأمين جنوب سوريا لصالح الأمن الإسرائيلي؛
واستثمار نمو داعش في الشرق لشرعنة تدخل أميركي مفتوح (⁴.
كانت الفصائل تتلقى الرواتب بالدولار، والذخيرة بطرق منتظمة، ويتلقى قادتها التعليمات عبر قنوات استخبارية مشتركة. لقد كانت تجربة “موك” أول نموذج حديث للحرب بالوكالة في المشرق.
3. إسرائيل: اللاعب الخفي الذي سيظهر لاحقًا إلى العلن.
على الرغم من محاولة تل أبيب إخفاء تورطها في الملف السوري، إلا أن عملية “الجيرة الحسنة” (Good Neighbor) كشفت لاحقًا أنها دعمت 12 فصيلًا على الأقل، ونقلت الجرحى إلى مشافيها، وقدمت خرائط وإحداثيات، وسلّحت مجموعات معينة لضبط الجولان (⁵.
كان الهدف واضحًا:
منع نقل الحرب إلى الجولان، ومنع استكمال طريق دمشق–بيروت–طهران، وخلق منطقة عازلة عبر فصائل محلية تعمل ضمن هندسة إسرائيلية مباشرة.
4. روسيا: الحليف الذي أراد البقاء وسيطًا لإسرائيل
رغم تدخل روسيا العسكري في 2015، إلا أنها تعاملت مع الجنوب السوري بحساسية فائقة. كانت موسكو تدرك أن استفزاز تل أبيب قد يغيّر قواعد اللعبة، لذلك فضّلت صيغة المصالحات التي تبقي الفصائل داخل الدولة من دون إخضاعها الكامل للقيادة السورية (⁶.
أدى هذا إلى إعادة تدوير التشكيلات المسلحة بدل تفكيكها.
5. اللواء الثامن: إعادة تدوير الفصائل داخل جسد الدولة.
ظهر “اللواء الثامن” كهيكل ميداني يضم عناصر سابقين من الفصائل، لكن تحت مظلة “الفيلق الخامس” المموّل روسياً. كان اللواء وحدة هجينة:
ينتمي حربيًا للدولة، لكنه سياسيًا تحت نفوذ موسكو، ويمتلك هامشًا يسمح له بمفاوضات محلية واستقلال قرار يفوق ما يسمح به الجيش السوري (⁷.
كان أشبه بجسر بين الماضي المسلح والحاضر السياسي.
. 2022–2024:
6 تفكك تدريجي يفتح الطريق للسقوط.
بدأت سوريا تنزف بشكل متسارع منذ 2022 مع التراجع الروسي، وتوسع هيئة تحرير الشام، وانهيار الليرة، ونزيف الشباب، وتحوّل المدن إلى جزر اقتصادية.
هكذا أصبحت الدولة كجسد منهك يستند إلى عضلات مصابة: واقفة، لكن قابلة للسقوط في اللحظة التي تنسحب فيها قوة الدعم.
7. عملية “كسر القيود”: لحظة السقوط النهائي
في ديسمبر 2024، انهارت دفاعات دمشق خلال 48 ساعة فقط (⁸).
كان اللواء الثامن يتحرك داخل العاصمة، وكانت الفصائل الجنوبية تتقدم بخفة، وكانت البنية الأمنية في حالة تآكل عميق، بينما بدا المشهد الدولي متواطئًا بصمت.
لم تكن المعركة معركة “اختراق عسكري”، بل سقوط نظام أُنهك بالفساد والفقر والضغوط، وأخيرًا أُسقط بالهندسة السياسية–العسكرية الخارجية.
8. الاعتراف الإسرائيلي: إعلان الفاعل الحقيقي
حين قال نتنياهو:
«إسرائيل هي التي أسقطت الأسد» (⁹)،
كان يعلن رسميًا نهاية حقبة.
كان يقرّ بأن المشروع الذي بُدئ في الجنوب السوري عام 2013 قد اكتمل.
القسم الثاني: هل يُسقِط الأميركيون لبنان… ولكن عبر المناورات السياسية بدل السلاح؟
بعد سقوط سوريا، تحوّل لبنان إلى الهدف المتبقي في المشرق الذي لا يزال يمتلك قدرة ردع حقيقية ضد إسرائيل.
وعلى عكس سوريا، لا تريد واشنطن، ولا تل أبيب إسقاط لبنان بالسلاح، فهذا مستحيل بسبب وجود المقاومة، بل تريدان إسقاطه عبر هندسة السلطة نفسها.
1. السلطة الحالية: الأداة الهادئة لإعادة صياغة لبنان
عملت واشنطن وباريس والرياض على فرض سلطة لا تحكم فقط، بل تعيد تعريف لبنان نفسه.
حيث يجب أن:
تلتزم بإدارة “الضبط الأمني” على الحدود كما تريده إسرائيل؛
توافق على ترسيم الحدود البحرية بما ينزع أوراق القوة من يد المقاومة؛
تقبل بمنطق “حصر السلاح” كمدخل لتفكيك الردع اللبناني (¹⁰)؛
وتعمل ضمن إطار المشروع الإقليمي الأميركي الذي يريد دمج إسرائيل في المنطقة كقوة طبيعية.
إنها للأسف بوابة لإعادة تشكيل الدولة نفسها.
2. الحكومة الحالية: صندوق أدوات السفارة الأميركية
الحكومة “الإنقاذية” ليست برنامجًا اقتصاديًا كما تُسوّق، بل مشروعًا أمنيًا–سياسيًا لإدارة الجنوب، وضبط الحدود، والتحكم بملف الغاز، ومنع انخراط لبنان في أي مواجهة إقليمية (¹¹).
بمعنى آخر، الحكومة هي غرفة العمليات السياسية التي تحاول واشنطن عبرها تحقيق ما فشلت فيه غرف “الموك” العسكرية في سوريا.
3. الاقتصاد: السلاح الجديد
كما حصل في سوريا، يُستخدم الاقتصاد في لبنان كسلاح:
الضغط عبر الدولار، التحكم بالمصارف، شروط صندوق النقد، وربط أي مساعدات دولية بملفات استراتيجية (¹²).
لكن الفارق أن المجتمع اللبناني، بخلاف السوري، يمتلك مؤسسات مدنية ومجتمعًا سياسيًا قادرًا على منع الانهيار الأمني مهما بلغ الجوع.
4. التطويق الإقليمي: لبنان آخر ساحة يجب أن تُغلق
تعتبر إسرائيل أن لبنان هو آخر ساحة قادرة على تهديدها استراتيجيًا.
وبالتالي، فإن إسقاطه بالقوة غير ممكن،
أما إسقاطه عبر المؤسسات — الحكومة، الاقتصاد — فهو الطريق الأكثر قابلية للتطبيق.
القسم الثالث: من دمشق إلى بيروت – ما الذي يتكرر… وما الذي يختلف؟
ما يتكرر:
إن القارئ لسقوط سوريا يرى أربعة عناصر تتكرر اليوم في لبنان:
أولها، الحصار الاقتصادي الذي يُستخدم كورقة ضغط سياسية (¹³).
ثانيها، الإدارة الأميركية للنخب المحلية التي تتلقى التعليمات والاتجاهات العامة لتعديل البنية الاستراتيجية للدولة.
وثالثها، الدور الإسرائيلي المتخفي الذي يتحرك عبر الدبلوماسية لا عبر الدبابات.
ورابعها، استثمار المجتمع الدولي في التفكك الداخلي لإنتاج توازنات جديدة.
ما يختلف:
لكن من جهة أخرى، فإن لبنان ليس سوريا.
ففي لبنان:
تمتلك المقاومة قوة ردع تجعل السيناريو العسكري مستحيلًا (¹⁴).
التنوع الطائفي يجعل هندسة الفصائل شبه مستحيلة.
كما أن الجنوب ليس أرضًا قابلة لإنتاج وكلاء كما في درعا.
والحدود البحرية والغازية تجعل المعركة سياسية–اقتصادية لا ميدانية.
بكلمة واحدة:
لبنان لن يسقط بالسلاح… إن سقط، فسيسقط من السلطة الحاكمة.
الخاتمة الاستراتيجية: لبنان بين نموذج سوريا الذي اكتمل، ونموذج “الهندسة الدستورية” الذي يُراد فرضه
إن قراءة سقوط سوريا تكشف أن الهزيمة لا تحصل بيوم واحد، بل عبر سلسلة طويلة من التفككات، تبدأ بالاقتصاد، ثم الإدارة، ثم التفكك الاجتماعي، ثم استثمار الفساد، ثم استخدام الفصائل، إلى أن يأتي يوم يُسقط فيه النظام كما تُسقط قبّة فوق أعمدة مهترئة.
أما في لبنان، فالهندسة مختلفة:
الضغط الاقتصادي بدل السلاح،
السلطة السياسية بدل الفصائل،
السفارة الأميركية “عوكر” بدل غرف العمليات،
المجتمع الدولي بدل تنظيمات الجهاد.
لكن عنصرًا واحدًا لا يزال يعرقل المشروع:
وجود مجتمع مقاوم يمتلك قوة فعلية تمنع قيام أي “موك سياسية” تُدير لبنان كما أُدير الجنوب السوري.
ويبقى السؤال:
هل يتنازل اللبنانيون عن أمنهم القومي تحت عنوان “التسوية”؟
أم أن لبنان، رغم هشاشة الدولة، سيقدّم النموذج المعاكس لسوريا:
دولة لا تسقط، لأن مجتمعها لم يقبل أن يُهندَس؟
الهوامش
1. (¹) دراسات مراكز الأبحاث حول إدارة الجنوب السوري 2011–2015.
2. (²) تصريحات نتنياهو في مراكز اللوبي اليهودي 2024–2025.
3. (³) بحوث حول السلفية في الجنوب السوري، جامعة أنقرة 2018.
4. (⁴) وثائق مسربة حول غرفة الموك، صحيفتا الغارديان ونيويورك تايمز.
5. (⁵) تقارير عملية Good Neighbor، الجيش الإسرائيلي 2016–2018.
6. (⁶) تحليلات حول سياسة موسكو جنوب سوريا، مركز كارنيغي.
7. (⁷) دراسات حول “اللواء الثامن”، معهد واشنطن.
8. (⁸) تسجيلات إعلامية وتحقيقات حول سقوط دمشق 2024.
9. (⁹) خطاب نتنياهو حول سوريا، ديسمبر 2024.
10. (¹⁰) أوراق تفاوض غربية حول الملف اللبناني.
11. (¹¹) تحليلات أمنية لبنانية حول “الحكومة الأمنية”.
12. (¹²) شروط صندوق النقد 2020–2024.
13. (¹³) مقاربة مقارنة بين الحصارين السوري واللبناني.
14. (¹⁴) دراسات حول توازن الردع اللبناني–الإسرائيلي.




