العدد العاشر

معركة ديان بيان فو: نهاية الإمبراطورية الفرنسية في الهند الصينية (فيتنام)

تستطيعُ معركةٌ واحدةٌ أن تغيّرَ مجرى التاريخ، وأن تهدِمَ أوهامَ القوّة مهما بلغت، لأنّ التاريخَ لا يُكتَب بالسلاحِ وحدَه، بل بالإرادةِ التي لا تلين. حين يؤمنُ شعبٌ بعدالةِ قضيتِه، يصبحُ الحديدُ هشًّا أمامَ الإيمان، وتتحوّلُ الجبالُ إلى حلفاءِ لا تُقهر. هذا ما أثبَتتهُ معركةُ ديان بيان فو سنةَ 1954، المعركةُ التي أنهَت الوجودَ الفرنسيّ في الهندِ الصينية وغيّرت وجهَ الاستعمارِ عالمِيًا.

بعد الحربِ العالميّةِ الثانية، سعت فرنسا جاهدةً إلى استعادةِ هيبتِها المفقودةِ عبرَ إعادةِ بسطِ نفوذِها على مستعمرتِها القديمةِ في الهندِ الصينية (فيتنام ولاوس وكمبوديا). غيرَ أنَّ الظروفَ لم تَعُدْ كما كانت؛ فقد وُلِدَ في فيتنام جيلٌ جديدٌ يؤمنُ بالحرّيّةِ، يقوده “هو تشي” الذي جمعَ حولَهُ الفلاحينَ والطلبةَ والجنودَ السابقينَ في جيشِ المقاومة المعروفِ بـ”الفيت منه”. كان الجيشُ الفرنسيّ يملكُ كلَّ مقوّماتِ التفوّقِ المادّي: طائراتٍ ودباباتٍ ومدفعيّةً حديثةً، وتموينًا قادمًا من الغربِ ودعمًا أمريكيًا كبيرًا، أمّا الفيتناميّون فكانوا يملكونَ شيئًا واحدًا لا يُقهرُ: العزيمةَ.

في عامِ 1953 خطّطَ القائدُ الفرنسيّ هنري نافار لإنشاءِ قاعدةٍ عسكريّةٍ ضخمةٍ في وادٍ ناءٍ قربَ الحدودِ مع لاوس تُعرفُ باسمِ ديان بيان فو. أرادَ تحويلَها إلى حصنٍ لا يُخترَقُ، فاختارَ الموقعَ بدقّةٍ وسطَ الجبالِ، محاطًا بالغاباتِ والمرتفعاتِ، ظنًّا منه أن العدو لن يستطيع الوصولَ إليها إلا عبر الجو. نشرَ هناك نحوَ ستةَ عشرَ ألفَ جنديٍّ بقيادةِ الجنرالِ كريستيان دي كاستري، مزوّدينَ بمدفعيّةٍ ثقيلةٍ ودباباتٍ خفيفةٍ ومدرَجِ طائراتٍ يؤمّنُ لهم الإمدادَ والمؤنَ. كانت الخطةُ تهدفُ إلى استدراجِ قواتِ “الفيت منه” إلى معركةٍ مفتوحةٍ داخلَ الواديِ ليتمَّ سحقُهم بنيرانِ الفرنسيين المتفوّقة.

لكنّ الجنرالَ فو نغوين جياب، قائدُ قواتِ “الفيت منه”، كان يرى ما هو أبعدُ من ذلك. لم يخضعْ للمنطقِ العسكريّ الكلاسيكيّ، بل وضعَ خطةً جريئةً تقومُ على محاصرةِ القاعدةِ بدلَ مهاجمتها مباشرةً. بدأَ بنقلِ مئاتِ المدافعِ الثقيلةِ من طرازِ هاوتزر عيارِ 105 ملم إلى قممِ الجبالِ المحيطةِ بالوادي. بدتِ المهمةُ مستحيلةً: الطرقُ وعرةٌ والطبيعةُ قاسيةٌ، لكنَّ عشراتِ الآلافِ من الجنودِ والفلاحينِ شاركوا في حمل المدافعِ على أكتافِهم، يجرّونها بالحبالِ والعرباتِ الخشبيّةِ عبرَ المستنقعاتِ والغاباتِ، حتى وصلتْ إلى مواقعِها من دون أن يلاحظَها الطيرانُ الفرنسيّ. لم يصدّقِ الجنرالاتُ الفرنسيّونَ أن جيشًا من الفلاحينِ قادرٌ على نقلِ هذا الكمّ من الحديدِ في تلكَ التضاريسِ، فاعتبروا التحذيراتِ مبالَغ فيها. وعندما بدأَ القصفُ كانت المفاجأةُ مدمّرةً.

في الثالثَ عشرَ من مارسَ عامَ 1954 فتحتِ المدفعيّةُ الفيتناميّةُ نيرانَها الكثيفةَ على المواقعِ الفرنسيّة. انهالتِ القذائفُ على القاعدةِ الرئيسة، فدمّرت مدرَجَ المطارِ خلالَ ساعاتٍ وأصبحَ الإمدادُ الجويُّ مستحيلًا. بدأ الفرنسيّونَ يشعرونَ بأنّهم محاصرونَ في فخٍّ لا مخرجَ منه. ومع كلّ يومٍ كان الفيتناميّونَ يقتربونَ أكثرَ، يحفرونَ الخنادقَ والأنفاقَ زاحفينَ نحو قلبِ القاعدةِ. تحوّلتْ المعركةُ إلى حربِ استنزافٍ لا ترحمُ. الأمطارُ حولتِ الوادي إلى مستنقعٍ من وَحلٍ، والجثثُ ملأت الخنادقَ، والذخيرةُ بدأت تنفدُ. ومع ذلك ظلّ الجنرالُ دي كاستري يتلقّى الأوامرَ من هانوي بالصمودِ، معتقدًا أنَّ الدعمَ الأمريكيّ سيصلُ، لكنه لم يأتِ أبدًا.

استمرت المعركة سبعةً وخمسين يومًا متواصلًا من القتال العنيف. أظهر الجنودُ الفرنسيون شجاعةً كبيرةً، لكنهم كانوا يقاتلون في معركةٍ خاسرة منذ البداية. تفوّق الفيتناميون في كل جانب من جوانب التنظيم والتكتيك، وأحكموا الحصارَ من جميع الجهات. في مطلع مايو، شنّ جياب هجومًا شاملًا على المقرّ الرئيسي، وفي السابع من الشهر نفسه أُجبر دي كاستري على الاستسلام مع أكثر من أحدَ عشر ألف جندي فرنسي، بينهم ضباطٌ كبار.

كانت حصيلة المعركة ثقيلةً من الطرفين، لكنها لم تكن متكافئة في دلالتها. فقد خسر الفرنسيون ما يقارب 2,300 قتيل و1,700 مفقود، بينما أُسر نحو 11,721 جنديًا، كثيرٌ منهم لقوا حتفهم في الأسر بسبب المرض وسوء التغذية. أما قوات “الفيت منه”، فقد تكبدت خسائر فادحة قُدّرت بين 8,000 و10,000 قتيل، إضافةً إلى نحو 15,000 جريح. ومع ذلك، كان الثمن بالنسبة إليهم مقبولًا مقارنةً بما تحقق من نصر أنهى قرنًا من السيطرة الاستعمارية الفرنسية على المنطقة.

لقد كانت ديان بيان فو أكبر خسارةٍ عسكرية لفرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، وأول انتصار حاسم لجيشٍ من المستعمرات ضد قوة أوروبية كبرى. كانت صدمة فرنسا عميقةً؛ فلم يكن أحد يتصور أن جيشًا استعماريًا مجهزًا بأحدث الأسلحة يمكن أن يُهزم على يد مقاتلين يعتمدون على خنادق بدائية ومؤنٍ شحيحة. بعد أسابيع من سقوط القاعدة، اجتمع ممثلو القوى الكبرى في مؤتمر جنيف، حيث اضطرت فرنسا إلى الاعتراف بانتهاء حرب الهند الصينية الأولى، وسحب قواتها من المنطقة، وتقسيم فيتنام إلى شمال وجنوب بانتظار انتخاباتٍ لم تُجرَ قط.

لقد وضعت ديان بيان فو نهايةً لثمانين عامًا من الاستعمار الفرنسي في تلك المنطقة، وفتحت الطريق أمام موجة استقلالات عمّت آسيا وأفريقيا.

تجاوزت أهمية المعركة حدود فيتنام، فقد أصبحت رمزًا لانتصار الشعوب على المستعمر، وللقدرة الهائلة للإرادة حين تتحد خلف هدفٍ واحد. لم تكن ديان بيان فو معركة سلاحٍ فقط، بل معركة إيمان؛ فقد أثبتت أن التفوق العسكري بلا إيمان لا يصمد أمام بساطة الإيمان بلا سلاح.

بعد أن خمدت المدافع، بقيت الحقيقة واضحة: لا يمكن لقوةٍ غريبة أن تبقى إلى الأبد على أرضٍ ليست أرضها. فالتاريخ، مهما طال ليله، ينحاز في نهاية الأمر لأصحاب الأرض، لأنهم وحدهم يعرفون كيف يموتون من أجلها، وكيف ينتصرون باسمها.

شادي منصور

المدير العام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى