العدد العاشر

بين خصوصية التنمية ودعوات الاستنساخ: قراءة في الطرح “التنموي” للجولاني

تُعَدّ التنمية الاقتصادية والاجتماعية من أكثر المجالات التي أُشبِعَت بحثًا في العقود الأخيرة، إذ سعت دول العالم الثالث على وجه الخصوص إلى دراسة تجارب بلدان أخرى والاستفادة من سياساتها التنموية من أجل تحقيق النمو والخروج من دوائر التبعية والتخلّف. غير أن الدرس الأبرز الذي استقر في الأدبيات التنموية هو أن التنمية ليست أنموذجًا جاهزًا يُنقَل أو يُستنسَخ، بل هي عملية معقّدة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بخصوصية كل بلد.

وقد أكّد منظّرو التنمية مرارًا أن نجاح تجربة ما في بلدٍ معين لا يعني بالضرورة قابليتها للتطبيق في بلد آخر، إذ إن التنمية مشروطة بجملة من العوامل البنيوية، أبرزها:

  • الواقع الاقتصادي القائم وهيكليته الإنتاجية.
  • الظروف الاجتماعية والثقافية والقيم السائدة.
  • البنية السياسية والمؤسساتية والقانونية.
  • الهوية القومية والتاريخية للشعوب.

من هنا، جاء التحذير الدائم من التعميم والاستنساخ، لما يحمله من تجاهل للواقع الموضوعي الخاص بكل مجتمع. فالتنمية ليست مجرد ارتفاع في مؤشرات الناتج المحلي أو تنفيذ مشروعات بنى تحتية، بل هي عملية تحوّل مجتمعي شاملة ترتبط بالسيادة الوطنية والقدرة على اتخاذ القرار المستقل.

وفي هذا السياق، يخرج علينا اليوم أبو محمد الجولاني بدعوة صريحة للاستفادة من “تجربته”، وكأنها تمثل أنموذجًا قابلاً للاحتذاء. غير أن قراءة هذه الدعوة في ضوء مبادئ التنمية تثير إشكاليات جوهرية: فكيف يمكن لشعبٍ يتبنّى هوية المقاومة ويرفض الاحتلال حتى آخر قطرة دم أن يعتبر “أنموذجًا” من ارتبط ظهوره وتمددّه بمشروعات التفتيت والتبعية الخارجية؟

إن أي أنموذج يقوم على هشاشة سياسية، أو يُدار في ظل نفوذ قوى خارجية، لا يمكن اعتباره تجربة تنموية بالمعنى العلمي للكلمة. فالتنمية الحقيقية ترتكز على الاستقلالية والسيادة، بينما التجارب المرتهنة تعيد إنتاج أشكال من الارتهان، وتشير بوضوح إلى وجود قوى دخيلة لا تنتمي إلى السياق الوطني أو القومي للشعوب.

وفي هذا الإطار، يحسن استحضار مقولة عالم الاجتماع سمير أمين: “التنمية المستقلة هي وحدها القادرة على بناء مجتمعات قوية، أما التنمية التابعة فهي إعادة إنتاج للتخلّف في ثوب جديد.”  هذه المقولة تعكس جوهر المعضلة: فالمشروعات التي تُبنى على أسس هشّة أو مرتهنة للخارج قد تبدو وكأنها خطوات إلى الأمام، لكنها في العمق ليست سوى تكريسٍ لبنية التبعية وإدامة للهيمنة.

وعليه، فإن دعوة الجولاني لا تتجاوز كونها محاولة لإضفاء شرعية تنموية على مشروع سياسي–عسكري يفتقر إلى المقوّمات البنيوية للتنمية، كما أنها تتعارض مع جوهر التجربة الوطنية في منطقتنا، القائمة على المقاومة والصمود ومراكمة التضحيات في مواجهة الاحتلال والهيمنة.

خاتمة

إنّ أيَّ عمليةٍ تنمويةٍ حقيقية لا يمكن أن تُبنى على التبعية أو على القبول بوجود الاحتلال. فالتنمية والسيادة وجهان لعملة واحدة: لا نهضةَ اقتصادية من دون استقلال سياسي، ولا عدالةَ اجتماعية من دون كرامة وطنية.

ولعلّ أبرز الأمثلة على ذلك ما شهده لبنان بعد عدوان تموز 2006، حين انطلقت عملية إعادة إعمار الضاحية الجنوبية بموارد محلية وإرادة شعبية، بعيدًا من إملاءات المانحين الدوليين. لقد شكّلت تلك التجربة أنموذجًا مصغّرًا للتنمية المقاومة، التي تنبع من المجتمع نفسه وتبني مؤسساته من القاعدة حتى رأس الهرم.

وكذلك تُقدِّم التجربة الفلسطينية في مواجهة الحصار مثالًا آخر على قدرة المجتمعات على ابتكار أشكال من الاقتصاد المقاوم، عبر التعاونيات الزراعية والإنتاج الذاتي، لتأمين الحاجات الأساسية على الرغم من محاولات العزل والتجويع.

وتؤكد هذه النماذج أن البديل عن استنساخ التجارب المشبوهة هو بناء أنموذج تنموي ينبع من داخل بيئتنا، متجذّر في قيمنا التاريخية وهويتنا الوطنية وتجربة مقاومتنا. وحدها هذه التنمية قادرة على الاستدامة، لأنها تتجسّد في وجدان الناس وتحوّل تضحياتهم إلى مشروع حضاري جامع.

رشا ريا

كاتبة من لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى